فصل: مطلب غزوة حمراء الأسد وبدر الصغرى وأحاديث في فضل الجهاد والرباط:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب غزوة حمراء الأسد وبدر الصغرى وأحاديث في فضل الجهاد والرباط:

ومرّ ركب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان، فقال صلّى الله عليه وسلم وأصحابه حسبنا الله ونعم الوكيل، ثم انصرف رسول الله راجعا إلى المدينة بعد ثالثة، فنزل قوله تعالى: {الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ} أي ركب عبد القيس المار ذكره {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} يعني أبا سفيان وقومه {فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ} هذا القول: {إِيمانًا} على إيمانهم وفي هذه الجملة دلالة على أن الإيمان يزيد وينقص كما بيناه في الآية الثانية من سورة الأنفال المارة {وَقالُوا حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)} قال عكرمة نزلت هذه الآية في بدر الصغرى، لأن أبا سفيان يوم أحد حين أراد أن ينصرف قال يا محمد موعد ما بيننا وبينك موسم بدر الصغرى نقابل إن شئت، فقال صلّى الله عليه وسلم بيننا وبينك ذلك إن شاء الله، فلما كان العام المقبل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل بمجنة من ناحية مرّ الظهران، فألقى الله الرعب في قلبه فبدا له الرجوع، وفي خلف وعده هذا قال عبد الله بن رواحة:
وعدنا أبا سفيان وعدا فلم نجد ** لميعاده صدقا وما كان وافيا

فأقسم لو وافيتنا فلقيتنا ** لأبت ذميما وافتقدت المواليا

تركنا به أوصال عتبة وابنه ** وعمرا أبا جهل تركناه ثاويا

عصيتم رسول الله أف لدينكم ** وأمركم الشيء الذي كان غاويا

وأني وإن عنفتموني لقائل ** فدى لرسول الله أهلي وماليا

أطعناه لم نعدله فينا بغيره ** شهابا لنا في ظلمة الليل هاديا

فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمرا، فقال له أبو سفيان يا نعيم إني وأعدت محمدا وأصحابه أن نلتقي يوم بدر الصغرى، وهذا عام جدب، ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب اللبن وبدا لي أن لا أخرج إليها وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج أنا، فيزيدهم ذلك جرأة، ولأن يكون الخلف من قبلهم أحب إلي من أن يكون من قبلي، فالحق بالمدينة فثبطهم وأعلمهم أنا في جمع كثير لا طاقة لهم بنا، ولك عندي عشرة من الإبل أضعها لك على يد سهل ابن عمرو وهو يضمنها لك وبعد أن استدعاه وتعهد له بذلك أتى المدينة فوجد الناس متجهزين لميعاد أبي سفيان، فقال لهم لو عدلتم عن خروجكم لكان خيرا لكم، إني والله قد رأيتهم وما أعدوه لكم، والله لإن أتوكم في دياركم وقراركم لم يفلت منكم إلّا الشريد، أفتريدون أن تخرجوا إليهم وقد جمعوا لكم ما ليس لكم بطاقة لمقابلته، وو الله إن أخذوا بكم لا يفلت منكم أحد.
فكره أصحاب الرسول الخروج، فقال صلّى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لأخرجنّ لهم ولو وحدي، فرجع الجبان وتأهب الشجاع، وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل، فخرج في أصحابه حتى وافوا بدرا، وأقاموا فيها، ولما قضي الموسم ولم يحضر أبو سفيان وأصحابه وكان معهم تجارات ونفقات فباعوها وربحوا بالدرهم اثنين وكان مدة سوق بدر ثمانية أيام، وسيأتي لهذه الغزوة بحث في الآية 47 من سورة النساء الآتية إن شاء الله، وعليه فإن سياق الآية يفيد الارتباط بما قبلها، وإنها قصة واحدة، وقد يجوز الوجه الآخر، والله أعلم.
روى البخاري عن ابن عباس قال في قوله تعالى: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا} أي الفقرة الأخيرة فيها وهي {حَسْبُنَا الله} إلخ قالها إبراهيم حين ألقي بالنار، وقالها محمد حين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم، ويؤيد الحادثتين قوله تعالى: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ الله وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ الله وَالله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)} وعلى اعتبار نزولها في بدر الصغرى يكون المراد بالناس أبا نعيم هذا إذ يجوز في لسانهم إطلاق الناس على الواحد باعتبار أنه إذا قال قولا ورضي به غيره، حسن إضافة ذلك القول إليهم كلهم، وعليه يكون قوله تعالى: {إِنَّما ذلِكُمُ} الذي خوفكم بجمع أبي سفيان هو {الشَّيْطانُ} أبو نعيم الذي رشاه أبو سفيان بعشرة من الإبل على أن يفتري تلك الفرية ولم يفز ببغيته، وقد خسر الدنيا والآخرة، وعلى المعنى الأول ركب عبد القيس الذي مرت الإشارة إليه في الآية 172 وهي المعبر عنه بالشيطان الذي {يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ} المنافقين إخوان المشركين {فَلا تَخافُوهُمْ} أيها المؤمنون لأنهم ضعفاء لا يستنصرون بالله ولا يعتمدون عليه، وكذلك المنافقون الّذين يأخذون بقوله، جبناء، لا يثقون بالله ويشكون في وعده ودعوة نبيه، فانبذوهم {وَخافُونِ} أنا وحدي الجبار القاهر عظيم البطش {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)} بي وبرسولي، ثم التفت يخاطب سيد المخاطبين بقوله: {وَلا يَحْزُنْكَ} يا حبيبي {الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} من المنافقين والمشركين فإنهم لا يضرونك والله معك {إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا الله شَيْئًا} بمسارعتهم لقتالك الذي هو نفسه كفر، وإنما يضرون أنفسهم {يُرِيدُ الله أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ} ويكلهم إلى الدنيا {وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176)} لا تطيقه قواهم لأنه من إله عظيم.
هذا، وعلى القول الأول تكون هذه الآية آخر قصة أحد لأنها متعلقة بما قبلها، وغزوة حمراء الأسد تبع لها وعلى الثاني يكون آخرها قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} ومن قوله تعالى: {الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ} الآيات إلى هنا تعتبر نازلة في واقعة بدر الصغرى، والله أعلم.
روى البخاري ومسلم عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها.
ورويا عن سهل بن سعد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها، وموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها.
ورويا عن أبي سعد قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أي الناس أفضل؟
قال مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله، قال ثم من؟ قال رجل في شعب من الشعاب يعبد الله تعالى، وفي رواية يتقي الله ويدع الناس شره.
ورويا عن أنس بن مالك قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال ما بأحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما في الأرض من شيء إلا الشهيد يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة.
وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: يغفر الله للشهيد كل ذنب إلا الدين.
راجع ما يتعلق في بحث الدين في الآية 280 من البقرة المارة.
وأخرج أبو داود عن أبي الدرداء قال: قال صلّى الله عليه وسلم يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته.
وأخرج الترمذي والنسائي عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ما يجد الشهيد مس القتل إلا كما يجد أحدكم من ألم القرحة.
وروى البخاري عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال من احتبس فرسا في سبيل الله، الحديث تقدم في الآية 60 من سورة الأنفال المارة ومعه أحاديث كثيرة في هذا البحث.
وأخرج الترمذي وأبو داود عن فضالة بن عبد الله قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل، فإنه ينمّي له عمله إلى يوم القيامة ويأمن من فتنة القبر.
ورويا عن سهل بن سعد المذكور من الحديث الثاني في هذه الأحاديث المارة بزيادة: والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما فيها.
وروى مسلم عن سلمان قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات فيه جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجرى عليه رزقه وأمن من الفتان.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بالإيمان} أي المنافقين لأنهم كفروا بعد إيمانهم فغبنوا وخابوا وخسروا أنفسهم لأنهم ببيعتهم الخاسرة {لَنْ يَضُرُّوا الله شَيْئًا} بل خسروا أنفسهم وحدها في الدنيا {وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177)} في الآخرة، ولا تكرار في جملة {لن يضروا الله} وفي جملة {ولهم عذاب أليم} لأنها في الآية الأولى في جميع الكفار وهذه في المنافقين المتخلفين فقط وتلك مختومة بلفظ عظيم وهذه بلفظ أليم.
قال تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} بتاء الخطاب لحضرة الرسول وبالياء على الغيبة لعموم الكفار، ولا يخصصها قول من قال إنها نزلت بالمشركين وبعض يهود بني قريظة والنضير الذين سبق ذكرهم وسبق في علم الله عدم إيمانهم {أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ} نمهلهم ونؤخرهم ليعتقدوا أن ذلك {خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ} كلا لا يظنوا ذلك بل هو شر لهم بدليل قوله عز قوله: {إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْمًا} فتكثر أوزارهم في الدنيا {وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178)} في الآخرة ينسون بكبير هوانه عز الدنيا وما فيها لو كانت كلها لهم.
روى البغوي بسنده عن عبد الرحمن عن أبيه قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم أي الناس خير قال من طال عمره وحسن عمله، قيل فأي الناس شر؟ قال من طال عمره وساء عمله.
وقال ابن الأنباري: قال صلّى الله عليه وسلم إذا رأيت الله يعطي على المعاصي فإن ذلك استدراج من الله لخلقه، ثم تلا هذه الآية.
قال تعالى: {ما كانَ الله لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ} بحيث لم يعرف المخلص من غيره {حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} وذلك أن المؤمنين سألوا رسول الله آية يعرفون بها المخلص من المنافق، فأنزل الله هذه الآية أي لم يترككم على هذا الاختلاط والالتباس بل لابد وأن يبين المؤمن الموقن والكافر المصر.
وهذا بعد واقعة أحد، لأن المؤمن ثبت على إيمانه وازداد إخلاصا، والمنافق جاهر في نفاقه وازداد كفرا فظهر للناس حال الطرفين {وَما كانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} أيها المؤمنين توا لتميزوا بين الطرفين لأن هذا من الغيب وهو من خصائص الله.
واعلم أن فعل يذر لا ماضي له، راجع الآية 278 من البقرة المارة، (28).
ولا تنوهموا أن رسولكم يعلم شيئا دون تعليمنا إياه لأن شأنه في الغيب شأن غيره {وَلكِنَّ الله يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ} فيطلعه على ما يشاء من غيبه دلالة على نبوته لخلقه لئلا يبطنوا له خلاف ما يظهرونه {فَآمِنُوا بِالله وَرُسُلِهِ} كلهم محمد فمن قبله {وَإِنْ تُؤْمِنُوا} بالرسل كلهم {وَتَتَّقُوا} جميع ما نهيتم عنه {فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)} من الرب العظيم الذي يعطي العظيم {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ} زيادة على كفايتهم {هُوَ خَيْرًا لَهُمْ} كلا أيها الإنسان الكامل {بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ} بالدنيا بالذم وبالآخرة {سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ} على رءوس الأشهاد {يَوْمَ الْقِيامَةِ} فيراهم أهل الموقف، لأنهم لم ينفقوا ما أعطيناهم في طرق الخير ثم تركوه لغيرهم وتحملوا عقابه {وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} لأن أهلهما يموتون وهو الباقي الوارث لهم {وَالله بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)}.

.مطلب في الزكاة وعقاب تاركها وتحذير العلماء من عدم قيامهم بعلمهم وحقيقة النفس:

نزلت هذه الآية في مانعي الزكاة بدليل تشديد الوعد فيها، لأن منع صدقة الشرع لا تستلزم هذا التهديد، يؤيد هذا ما جاء في تخريج البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من آتاه الله مالا فلم يؤدّ زكاته مثل له يوم القيامة شجاع أقرع (حية عظيمة) له زبيبتان (شعرتان في لسانه) بطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهمزتيه (شدقه) ثم يقول أنا مالك أنا كنزك، ثم تلا هذه الآية.
وهذا الحديث مفسر لقوله تعالى: {سيطوقون ما بخلوا به} وروى البخاري عن أبي ذر قال: انتهيت إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة، فلما رآني قال هم الأخسرون ورب الكعبة، قال فجئت حتى جلست فلم أتقار أن قمت (وهذا من كمال أدبه رضي الله عنه إذ لم يرد أن يتجاسر على سؤال حضرة الرسول وهو قاعد) ومن هنا ين التمسك بالأدب مع العلماء لمن يسألهم عن أمر دينه أكثر من غيرهم، فقلت يا رسول الله فداك أبي وأمي من هم؟ قال الأكثرون أموالا إلا من قال هكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقليل ما هم، ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت عليه وأسمن تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها كلما نفذت أخراها عادت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس- لفظ مسلم- وخرجه البخاري بمعناه في موضعين، وتتمة هذا الحديث تأتي بالآية 26 من سورة التوبة الآتية.
هذا ومن قال إن هذه الآية نزلت في الذين يكتمون نعت محمد صلّى الله عليه وسلم من اليهود وغيرهم فقد ذهل القصد وأغفل المطلوب وأخطأ المرمى، لأن الله تعالى لما بين الباذلين أموالهم وأنفسهم في الجهاد أتبعه في الباذلين المال لأنه من لوازم الجهاد وضرورياته، وقد سبقت آيات كثيرة في الكاتمين نعت الرسول، فلا حاجة لأن تؤول غيرها على خلاف ظاهرها ولا نجهد الفكر بأن هذه ناسخة وهذه منسوخة من حيث لا ناسخ ولا منسوخ كما اعتاد بعض المفسرين حتى تجارءوا على مخالفة ظاهر التنزيل بلا جدوى، وحتى ان بعضهم جرؤا على النظم الكريم مثل صاحب الجمل عفا الله عنه، راجع الآية 5 من سورة الحج الآتية وما ترشدك إليه من سورة يونس، ألا فليحذر العالم أن يخرج عن حد الاعتدال اغترارا بما آتاه الله من ذرة علم، فكثير ممن هو أعلم منه وأعلم هوى به علمه إلى أسفل سافلين، أعاذنا الله تعالى من ذلك ووقانا ممّا هنالك.
قال تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَ} نكتب أيضا {قَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ} من قبل أسلافهم {بِغَيْرِ حَقٍّ} عدوانا محضا {وَنَقُولُ} لهم في الآخرة عند ما يطرحون بالنار ويستغيثون بنا فيها {ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181)} فيها {ذلِكَ} العذاب الشديد ينالكم {بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} من أعمال منكرة {وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)} فلا يعذب أحدا بلا جرم، قال دخل أبو بكر رضي الله عنه بيت المدارس فقال لحبر اليهود فنخاص بن عازوراء على ملإ من قومه قد جاءكم محمد بالحق من عند الله تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة، فاتق الله وآمن وصدق واقرض الله قرضا حسنا يدخلك الجنة ويضاعف لك الثواب، فقال يا أبا بكر تزعم أن ربنا يستقرض إذن هو الفقير ونحن أغنياء، فغضب أبو بكر وضربه وقال والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينكم لضربت عنقك يا عدو الله، فذهب وشكاه إلى الرسول فاستدعاه وقال ما حملك يا أبا بكر على ما صنعت؟ قال يا رسول الله أنه قال قولا عظيما، زعم أن الله فقير وهم أغنياء، فجحد فنخاص ذلك، فأنزل الله هذه الآية تكذيبا له وتصديقا لأبي بكر، وقد سمع الله قول: {الَّذِينَ قالُوا} أي فنخاص المذكور وأضرابه لمالك بن الصيفي ووهب بن يهوذا وزيد بن تابوت وحيي بن أحطب وكعب بن الأشرف {إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنا} في التوراة على لسان موسى {أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ} آية نبوته حتى نصدقه كما وقع لابن آدم هابيل ومن بعده من الأنبياء فأنزل الله جل جلاله {قُلْ} لهم يا سيد الرسل {قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ} كزكريا ويحيى وعيسى {وَبِالَّذِي قُلْتُمْ} من القربان وغيره {فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ} بعد أن أتوكم بما طلبتم منهم {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183)} في دعواكم {فَإِنْ كَذَّبُوكَ} يا حبيبي في هذا مع علمهم بصدقه فلا تحزن ولا تضجر {فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} نوح وصالح وهود وإبراهيم وغيرهم مع أنهم {جاؤُ بِالْبَيِّناتِ} لأقوامهم {وَالزُّبُرِ} الكتب، يقال لكل كتاب فيه حكمة زبور، والقربان لكل ما يتقرب به، والزبر هي الكتب وبه سمي زبور داود عليه السلام، لأنه يزبر به الناس أي يزجرهم عن الباطل ويدعوهم إلى الحق {وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (184)} الواضح كالتوراة والإنجيل ويطلق القربان على كل عبادة مالية أو بدنية وعلى الأقوال والأفعال المادية والمعنوية يدل على هذا قوله صلّى الله عليه وسلم: الصوم جنة والصلاة قربان وكانت القرابين والغنائم لا تحل لبني إسرائيل فإذا قربوا قربانا أو غنموا غنيمة جمعوها فتجيء نار بيضاء من السماء لا دخان لها ولها دوي وحفيف فتأكل ذلك القربان أو الغنيمة، فيكون دليلا على القبول، وإذا لم يقبل منهم يبقى على حاله ولم تنزل عليه نار تأكله.
ولهذا البحث صلة في الآية 27 من سورة المائدة الآتية قال السدي إن الله تعالى أمر بني إسرائيل في التوراة أن من جاءكم يزعم أنه رسول فلا تصدقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار، وحتى يأتيكم المسيح ومحمد، وكانت هذه العادة باقية إلى بعثة المسيح، ثم ارتفعت وزالت.
ولما قال بعض الأصحاب يا رسول الله إن الله أنزل: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} وهذا خاص في بني آدم لأن الخطاب لهم فأين ذكر موت الجن والأنعام والوحوش والملائكة والطيور وغيرها، فأنزل الله: {كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ} ووجه المناسبة بين هذه الآية والتي قبلها التهديد للكفرة بالمعاد، وهذه الجملة مكررة في الآية 25 من سورة الأنبياء والآية 27 من سورة العنكبوت وفي غيرهما أيضا، أي لا ليهمنك تكذيبهم فمرجعهم إليّ بعد الموت وسأجازيهم على تكذيبهم وأكافئك على صبرك بدلالة قوله: {وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ} قليلها وكثيرها خفيها وظاهرها {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ} بالسعادة الأبدية لأن كل أحد قبل الدخول فيها خائف فزع منتظر ما يفعل به.